كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ- أَنَّ اعْتِرَافَ الْعَبْدِ بِذَنْبِهِ حَقِيقَةً الِاعْتِرَافَ الْمُتَضَمِّنَ لِنِسْبَةِ السُّوءِ وَالظُّلْمِ وَاللَّوْمِ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَنِسْبَةِ الْعَدْلِ وَالْحَمْدِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ إِلَى رَبِّهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، يَسْتَعْطِفُ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِ وَيَسْتَدْعِي رَحْمَتَهُ لَهُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْحَمَ عَبْدَهُ أَلْقَى ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَالرَّحْمَةَ مَعَهُ وَلاسيما إِذَا اقْتَرَنَ بِذَلِكَ جَزْمُ الْعَبْدِ عَلَى تَرْكِ الْمُعَاوَدَةِ لِمَا يُسْخِطُ رَبَّهُ عَلَيْهِ وَعَلِمَ اللهُ أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلَ قَلْبِهِ وَسُوَيْدَائِهُ فَإِنَّهُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الرَّحْمَةُ مَعَ ذَلِكَ.
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ الرَّهَاوِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ آخِرَ رَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ يَتَقَلَّبُ عَلَى الصِّرَاطِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ كَالْغُلَامِ يَضْرِبُهُ أَبُوهُ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ، يَعْجَزُ عَنْهُ عَمَلُهُ أَنْ يَسْعَى فَيَقُولُ: يَارَبِّ بَلِّغْ بِي الْجَنَّةَ وَنَجِّنِي مِنَ النَّارِ. فَيُوحِي اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيْهِ: عَبْدِي! إِنْ أَنَا نَجَّيْتُكَ مِنَ النَّارِ وَأَدْخَلْتُكَ الْجَنَّةَ أَتَعْتَرِفُ لِي بِذُنُوبِكَ وَخَطَايَاكَ؟ فَيَقُولُ الْعَبْدُ: نَعَمْ يَارَبِّ وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ إِنْ نَجَّيْتَنِي مِنَ النَّارِ لَأَعْتَرِفَنَّ لَكَ بِذُنُوبِي وَخَطَايَايَ. فَيَجُوزُ الْجِسْرَ وَيَقُولُ الْعَبْدُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ: لَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَهُ بِذُنُوبِي وَخَطَايَايَ لَيَرُدَّنِي إِلَى النَّارِ، فَيُوحِي اللهُ إِلَيْهِ: عَبْدِي اعْتَرِفْ لِي بِذُنُوبِكَ وَخَطَايَاكَ أَغْفِرْهَا لَكَ وَأُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ الْعَبْدُ: لَا وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ مَا أَذْنَبْتُ ذَنْبًا قَطُّ وَلَا أَخْطَأْتُ خَطِيئَةً قَطُّ، فَيُوحِي اللهُ إِلَيْهِ: عَبْدِي إِنَّ لِي عَلَيْكَ بَيِّنَةً فَيَلْتَفِتُ الْعَبْدُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَا يَرَى أَحَدًا، فَيَقُولُ يَارَبِّ أَرِنِي بَيِّنَتَكَ، فَيَسْتَنْطِقُ اللهُ تَعَالَى جِلْدَهُ بِالْمُحَقِّرَاتِ فَإِذَا رَأَى ذَلِكَ الْعَبْدُ يَقُولُ: يَارَبِّ عِنْدِي وَعَزَّتِكَ الْعَظَائِمُ فَيُوحِي اللهُ إِلَيْهِ: عَبْدِي أَنَا أَعْرَفُ بِهَا مِنْكَ اعْتَرِفْ لِي بِهَا أَغْفِرْهَا لَكَ وَأُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ. فَيَعْتَرِفُ الْعَبْدُ بِذُنُوبِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ» ثُمَّ ضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ- يَقُولُ هَذَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً فَكَيْفَ بِالَّذِي فَوْقَهُ؟ فَالرَّبُّ تَعَالَى يُرِيدُ مِنْ عَبْدِهِ الِاعْتِرَافَ وَالِانْكِسَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْخُضُوعَ وَالذِّلَّةَ لَهُ وَالْعَزْمَ عَلَى مَرْضَاتِهِ. فَمَا دَامَ أَهْلُ النَّارِ فَاقِدِينَ لِهَذَا الرُّوحِ فَهُمْ فَاقِدُونَ لِرُوحِ الرَّحْمَةِ، فَإِذَا أَرَادَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْحَمَهُمْ أَوْ مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ جَعَلَ فِي قَلْبِهِ ذَلِكَ فَتُدْرِكُهُ الرَّحْمَةُ، وَقُدْرَةُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى غَيْرُ قَاصِرَةٍ عَنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنَاقِضُ مُوجَبَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ- أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَوْجَبَ الْخُلُودَ عَلَى مَعَاصِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَقَيَّدَهُ بِالتَّأْبِيدِ وَلَمْ يُنَافِ ذَلِكَ انْقِطَاعَهُ وَانْتِهَاءَهُ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [4: 93] وَمِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي قَاتِلِ نَفْسِهِ: «فَيَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [72: 23] فَهَذَا وَعِيدٌ مُقَيَّدٌ بِالْخُلُودِ وَالتَّأْبِيدِ، مَعَ انْقِطَاعِهِ قَطْعًا بِسَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ. فَكَذَلِكَ الْوَعِيدُ الْعَامُّ لِأَهْلِ النَّارِ لَا يَمْتَنِعُ انْقِطَاعُهُ بِسَبَبٍ مِمَّنْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَغَلَبَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمَا يَئِسَ مِنْ رَحْمَتِهِ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَلَقَ اللهُ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ- وَقَالَ فِي آخِرِهِ- فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُسْلِمُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ».
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ- أَنَّهُ لَوْ جَاءَ الْخَبَرُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ صَرِيحًا بِأَنَّ عَذَابَ النَّارِ لَا انْتِهَاءَ لَهُ وَأَنَّهُ أَبَدِيٌّ لَا انْقِطَاعَ لَهُ، لَكَانَ ذَلِكَ وَعِيدًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَاللهُ تَعَالَى لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ.
وَأَمَّا الْوَعِيدُ فَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ كُلُّهُ أَنَّ إِخْلَافَهُ كَرَمٌ وَعَفْوٌ وَتَجَاوُزٌ يُمَدَحُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ وَيُثْنَى عَلَيْهِ بِهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ لَهُ إِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ، وَالْكَرِيمُ لَا يَسْتَوْفِي حَقَّهُ، فَكَيْفَ بِأَكْرَمِ الْأَكْرَمِينَ، وَقَدْ صَرَّحَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَلَمْ يَقُلْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَا يُخْلِفُ وَعِيدَهُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ وَعَدَهُ اللهُ عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا فَهُوَ مُنْجِزُهُ، وَمَنْ أَوْعَدَهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَابًا فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ» وَقَالَ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْخَلِيلِ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ قَالَ: جَاءَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ إِلَى أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو أَيُخْلِفُ اللهُ مَا وَعَدَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَرَأَيْتَ مَنْ أَوْعَدَهُ اللهُ عَلَى عَمَلِهِ عِقَابًا أَيُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: مِنَ الْعُجْمَةِ أُتِيتَ يَا أَبَا عُثْمَانَ، إِنَّ الْوَعْدَ غَيْرُ الْوَعِيدِ، إِنَّ الْعَرَبَ لَا تَعُدُّ عَارًا وَلَا خُلْفًا أَنْ تَعِدَ شَرًّا ثُمَّ لَا تَفْعَلَهُ، تَرَى ذَلِكَ كَرَمًا وَفَضْلًا، وَإِنَّمَا الْخُلْفُ أَنْ تَعِدَ خَيْرًا ثُمَّ لَا تَفْعَلَهُ، قَالَ: فَأَوْجِدْنِي هَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ نَعَمْ أَمَا سَمِعْتَ إِلَى قَوْلِ الْأَوَّلِ:
وَلَا يَرْهَبُ ابْنُ الْعَمِّ مَا عِشْتُ سَطْوَتِي ** وَلَا أَخْتَنِي مِنْ صَوْلَةِ الْمُتَهَدِّدِ

وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ وَوَعَدْتُهُ ** لَمُخْلِفٌ إِيعَادِي وَمُنْجِزٌ مَوْعِدِي

قَالَ أَبُو الشَّيْخِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ حَقٌّ، فَالْوَعْدُ حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ ضَمِنَ لَهُمْ إِذَا فَعَلُوا كَذَا أَنْ يُعْطِيَهُمْ كَذَا وَمَنْ أَوْلَى بِالْوَفَاءِ مِنَ اللهِ؟ وَالْوَعِيدُ حَقُّهُ عَلَى الْعِبَادِ. قَالَ: لَا تَفْعَلُوا كَذَا فَأُعَذِّبَكُمْ فَفَعَلُوا فَإِنْ شَاءَ عَفَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ لِأَنَّهُ حَقُّهُ. وَأَوْلَاهُمَا بِرَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْعَفْوُ وَالْكَرَمُ إِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ حِينَ أَوْعَدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَنِي ** وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ

فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي وَعِيدٍ مُطْلَقٍ فَكَيْفَ بِوَعِيدٍ مَقْرُونٍ بِاسْتِثْنَاءٍ مُعَقَّبٍ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ عَقِيبَ قَوْلِهِ: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} فَهُوَ عَائِدٌ إِلَيْهِ وَلَابُدَّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَحْدَهُ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمُسْتَثْنَى أَوْ يَعُودَ إِلَيْهِمَا، وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ تَعَلُّقَهُ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} أَوْلَى مِنْ تَعَلُّقِهِ بِقَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا} وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِلْمُتَأَمِّلِ وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ فَقَالُوا: أَتَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كُلِّ وَعِيدٍ فِي الْقُرْآنِ. وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءَ وَحْدَهُ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَذْكُورٌ فِي الْأَنْعَامِ أَيْضًا. وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّهُ عَقِبَ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وَهَذَا التَّعْقِيبُ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ: {خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} فَأَخْبَرَ أَنَّ عَذَابَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَرَفْعَهُ عَنْهُمْ فِي وَقْتٍ يَشَاؤُهُ صَادِرٌ عَنْ كَمَالِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، لَا عَنْ مَشِيئَةٍ مُجَرَّدَةٍ عَنِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ تَجَرُّدُ مَشِيئَتِهِ عَنْ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ- أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ أَغْلَبُ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْبَاطِلَةِ الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ عَنْ قُرْبٍ مِنْ جَانِبِ الْعُقُوبَةِ وَالْغَضَبِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُمِّرَتْ وَلَا قَامَ لَهَا وُجُودٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [16: 61] وَقَالَ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [35: 45] فَلَوْلَا سَعَةُ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَعَفْوِهِ لَمَا قَامَ الْعَالَمُ. وَمَعَ هَذَا فَالَّذِي أَظْهَرُهُ مِنَ الرَّحْمَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَأَنْزَلَهُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنَ الرَّحْمَةِ، فَإِذَا كَانَ جَانِبُ الرَّحْمَةِ قَدْ غَلَبَ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَنَالَتِ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ وَالْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ مَعَ قِيَامِ مُقْتَضَى الْعُقُوبَةِ بِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ لَهُ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ إِغْضَابِ رَبِّهِ وَالسَّعْيِ فِي مُسَاخَطَتِهِ، فَكَيْفَ لَا يَغْلِبُ جَانِبُ الرَّحْمَةِ فِي دَارٍ تَكُونُ الرَّحْمَةُ فِيهَا مُضَاعَفَةً عَلَى مَا فِي هَذِهِ الدَّارِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ ضِعْفًا، وَقَدْ أَخَذَ الْعَذَابُ مِنَ الْكُفَّارِ مَأْخَذَهُ وَانْكَسَرَتْ تِلْكَ النُّفُوسُ وَأَنْهَكَهَا الْعَذَابُ وَأَذَابَ مِنْهَا خُبْثًا وَشَرًّا لَمْ يَكُنْ يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَحْمَتِهِ لَهَا فِي الدُّنْيَا. بَلْ كَانَ يَرْحَمُهَا مَعَ قِيَامِ مُقْتَضَى الْعُقُوبَةِ وَالْغَضَبِ بِهَا، فَكَيْفَ إِذَا زَالَ مُقْتَضَى الْغَضَبِ وَالْعُقُوبَةِ وَقَوِيَ جَانِبُ الرَّحْمَةِ أَضْعَافَ أَضْعَافِ الرَّحْمَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ. وَاضْمَحَلَّ الشَّرُّ وَالْخُبْثُ الَّذِي فِيهَا فَأَذَابَتْهُ النَّارُ وَأَكَلَتْهُ؟! وَسِرُّ الْأَمْرِ أَنَّ أَسْمَاءَ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ أَغْلَبُ وَأَظْهَرُ وَأَكْثَرُ مِنْ أَسْمَاءِ الِانْتِقَامِ. وَفِعْلَ الرَّحْمَةِ أَكْثَرُ مِنْ فِعْلِ الِانْتِقَامِ. وَظُهُورَ آثَارِ الرَّحْمَةِ أَعْظَمُ مِنْ آثَارِ الِانْتِقَامِ وَالرَّحْمَةَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الِانْتِقَامِ. وَبِالرَّحْمَةِ خَلَقَ خَلْقَهُ وَلَهَا خَلَقَهُمْ، وَهِيَ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ وَغَلَبَتْهُ وَكَتَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَوَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَمَا خَلَقَ بِهَا فَمَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ وَمَا خَلَقَ بِالْغَضَبِ فَمُرَادٌ لِغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ، وَالْعُقُوبَةُ تَأْدِيبٌ وَتَطْهِيرٌ، وَالرَّحْمَةُ إِحْسَانٌ وَكَرَمٌ وَجُودٌ، وَالْعُقُوبَةُ مُدَاوَاةٌ. وَالرَّحْمَةُ عَطَاءٌ وَبَذْلٌ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ- أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لابد أَنْ يُظْهِرَ لِخَلْقِهِ جَمِيعِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صِدْقَهُ وَصِدْقَ رُسُلِهِ، وَأَنَّ أَعْدَاءَهُ كَانُوا هُمُ الْكَاذِبِينَ الْمُفْتَرِينَ. وَيُظْهِرَ لَهُمْ حُكْمَهُ الَّذِي هُوَ أَعْدَلُ حُكْمٍ فِي أَعْدَائِهِ، وَأَنَّهُ حَكَمَ فِيهِمْ حُكْمًا يَحْمَدُونَهُ هُمْ عَلَيْهِ فَضْلًا عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، بِحَيْثُ يَنْطِقُ الْكَوْنُ كُلُّهُ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [39: 75] فَحَذَفَ فَاعِلَ الْقَوْلِ لِإِرَادَةِ الْإِطْلَاقِ وَأَنَّ ذَلِكَ جَارٍ عَلَى لِسَانِ كُلِّ نَاطِقٍ وَقَلْبِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَقَدْ دَخَلُوا النَّارَ وَإِنَّ قُلُوبَهُمْ لِمُمْتَلِئَةٌ مِنْ حَمْدِهِ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ سَبِيلًا. وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَسَّنَ حَذْفَ الْفَاعِلِ مِنْ قَوْلِهِ: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [39: 72] حَتَّى كَأَنَّ الْكَوْنَ جَمِيعَهُ قَائِلٌ ذَلِكَ لَهُمْ إِذْ هُوَ حُكْمُهُ الْعَدْلُ فِيهِمْ وَمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْجَنَّةِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [39: 73] فَهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوهَا بِأَعْمَالِهِمْ وَإِنَّمَا اسْتَحَقُّوهَا بِعَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، فَإِذَا أَشْهَدَ سُبْحَانَهُ مَلَائِكَتَهُ وَخَلْقَهُ كُلَّهُمْ حُكْمَهُ الْعَدْلَ وَحِكْمَتَهُ الْبَاهِرَةَ وَوَضْعَهُ الْعُقُوبَةَ حَيْثُ تَشْهَدُ الْعُقُولُ وَالْفِطَرُ وَالْخَلِيقَةُ أَنَّهُ أَوْلَى الْمَوَاضِعِ وَأَحَقُّهَا بِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ حَمْدِهِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ الْخَبِيثَةَ الظَّالِمَةَ الْفَاجِرَةَ لَا يَلِيقُ بِهَا غَيْرُ ذَلِكَ وَلَا يَحْسُنُ بِهَا سِوَاهُ بِحَيْثُ تَعْتَرِفُ هِيَ مِنْ ذَوَاتِهَا بِأَنَّهَا أَهْلُ ذَلِكَ وَأَنَّهَا أَوْلَى بِهِ حَصَلَتِ الْحِكْمَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا وُجِدَ الشَّرُّ وَمُوجَبَاتُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَتِلْكَ الدَّارِ. وَلَيْسَ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَنَّ الشُّرُورَ تَبْقَى دَائِمًا لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا انْقِطَاعَ أَبَدًا، فَتَكُونَ هِيَ وَالْخَيِّرَاتُ فِي ذَلِكَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ. فَهَذَا نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَعَلَّكَ لَا تَظْفَرُ بِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِلَى أَيْنَ انْتَهَى قَدَمُكُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ الشَّأْنِ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ مِنَ الدُّنْيَا بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ؟ قِيلَ: إِلَى قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وَإِلَى هُنَا انْتَهَى قَدَمُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِيهَا حَيْثُ ذَكَرَ دُخُولَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلِ النَّارِ النَّارَ وَمَا يَلْقَاهُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَقَالَ: ثُمَّ يَفْعَلُ اللهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ، بَلْ وَإِلَى هَاهُنَا انْتَهَتْ أَقْدَامُ الْخَلَائِقِ. وَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ فِي الْكِتَابِ كُلِّهِ مِنْ صَوَابٍ فَمِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْمَانُّ بِهِ. وَمَا كَانَ مِنْ خَطَأٍ فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللهُ وَرُسُولُهُ بَرِيءٌ مِنْهُ وَهُوَ عِنْدَ لِسَانِ كُلِّ قَائِلٍ وَقَلْبِهِ وَقَصْدِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.
هَذَا مَا أَوْرَدَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَفِيهِ مِنْ دَقَائِقَ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ تَعَالَى وَفَهْمِ كِتَابِهِ وَالْغَوْصِ عَلَى دُرَرِ حِكَمِهِ فِي أَحْكَامِهِ وَأَسْرَارِهِ فِي أَقْدَارِهِ وَالْإِفْصَاحِ عَنْ سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَخَفِيِّ لُطْفِهِ وَجَلِيلِ إِحْسَانِهِ، مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ فِيمَا نَعْلَمُ سَابِقٌ، وَلَمْ يَلْحَقْهُ بِهِ لَاحِقٌ، فَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُكَافِئَهُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلَ مَا يُكَافِئُ الْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ، وَالْعَارِفِينَ الْكَامِلِينَ، وَأَنْ يَحْشُرَنَا وَإِيَّاهُ فِي ثُلَّةِ الْمُقَرَّبِينَ آمِينَ.
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى بَحْثِهِ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَمُؤَلِّفِي الْعَقَائِدِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ بِنَصِّهِ عَلَى طُولِهِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْحَقَائِقِ الَّتِي نَوَّهْنَا بِهَا، وَلِأَمْرٍ آخَرَ أَهَمَّ وَهُوَ أَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ أَقْوَى شُبَهَاتِ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ عَلَى الدِّينِ قَوْلُ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُمْ هُمُ النَّاجُونَ وَحْدَهُمْ وَأَكْثَرُ الْبَشَرِ يُعَذِّبُونَ عَذَابًا شَدِيدًا دَائِمًا لَا يَنْتَهِي أَبَدًا، بَلْ تَمُرُّ أُلُوفُ الْأُلُوفِ الْمُكَرَّرَةِ مِنَ الْأَحْقَابِ وَالْقُرُونِ وَلَا يَزْدَادُ إِلَّا شِدَّةً وَقُوَّةً وَامْتِدَادًا، مَعَ قَوْلِهِمْ- وَلاسيما الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ- إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَإِنَّ رَحْمَةَ الْأُمِّ الْعَطُوفِ الرَّءُومِ بِوَلَدِهَا الْوَحِيدِ لَيْسَتْ إِلَّا جُزْءًا صَغِيرًا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. وَهَذَا الْبَحْثُ جَدِيرٌ بِأَنْ يُزِيلَ شُبْهَةَ هَؤُلَاءِ فَيَرْجِعُ الْمُسْتَعِدُّونَ مِنْهُمْ إِلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى مُذْعِنِينَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ رَاجِينَ رَحْمَتَهُ خَائِفِينَ عِقَابَهُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَدْرَهُ- فَمَا أَعْظَمَ ثَوَابَ ابْنِ الْقَيِّمِ عَلَى اجْتِهَادِهِ فِي شَرْحِ هَذَا الْقَوْلِ الْمَأْثُورِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَإِنْ خَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ الَّذِينَ حَمَلُوا الْخُلُودَ وَالْأَبَدَ اللُّغَوِيِّينَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الْكَلَامِيِّ، وَهُوَ عَدَمُ النِّهَايَةِ فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسِ الْأَمْرِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَعَامُلِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ فِي عَالَمِهِمْ كَمَا يَقْصِدُ أَهْلُ كُلِّ لُغَةٍ فِي أَوْضَاعِ لُغَتِهِمْ، فَالْعَرَبُ كَانَتْ تَسْتَعْمِلُ الْخُلُودَ فِي الْإِقَامَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ غَيْرِ الْمُؤَقَّتَةِ، وَيُسَمُّونَ الْأَثَافِيَّ (حِجَارَةَ الْمَوْقِدِ) الْخَوَالِدَ، وَلَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ اسْتِحَالَةَ الِانْتِقَالِ وَالنَّقْلِ كَمَا بَيَّنَاهُ مِنْ قَبْلُ. وَيُعَبِّرُونَ بِالْأَبَدِ عَمَّا يَبْقَى مُدَّةً طَوِيلَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ، وَنَاهِيكَ بِتَدْقِيقِهِ فِي تَحْدِيدِ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ، وَفِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ. وَتَقُولُ: رَزَقَكَ اللهُ عُمْرًا طَوِيلَ الْآبَادِ بَعِيدَ الْآمَادِ. فَهَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ يَنْتَهِي؟! وَيَقُولُ أَهْلُ الْقَضَاءِ وَغَيْرُهُمْ فِي زَمَانِنَا حُكِمَ عَلَى فُلَانٍ بِالسَّجْنِ الْمُؤَبَّدِ أَوِ الْأَشْغَالِ الشَّاقَّةِ الْمُؤَبَّدَةِ- وَهُوَ لَا يُنَافِي عِنْدَهُمُ انْتِهَاءَهَا بِعَفْوِ السُّلْطَانِ مَثَلًا.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ قَدْ يَنْفَعُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمَارِقِينَ وَلَا يَضُرُّ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ مُسْتَدِلِّينَ أَوْ مُقَلِّدِينَ، وَسَنَعُودُ إِلَى الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ آيَتَيْ سُورَةِ هُودٍ، وَنُلَخِّصُ جَمِيعَ التَّأْوِيلَاتِ مَعَ بَيَانِ الرَّاجِحِ مِنْهَا وَالْمَرْجُوحِ وَدَلَائِلِ الْجُمْهُورِ.
{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
الْمَعْنَى الْعَامُّ لِمَادَّةِ الْوَلَاءِ هُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ نَوْعٌ مِنَ الِاتِّصَالِ فِي الْحُصُولِ أَوِ الْعَمَلِ، بِأَنْ لَا يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا أَوْ بَيْنَهَا مَا شَأْنُهُ أَنْ يَفْصِلَ مِنْ حَدَثٍ أَوْ جُثَّةٍ أَوْ زَمَنٍ، وَوَلِيَ الرَّجُلُ الْعَمَلَ أَوِ الْأَمْرَ قَامَ بِهِ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ وِلَايَةُ الْأَحْكَامِ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَصَاحِبُهَا وَالٍ، وَوَلَايَةُ الْقَرَابَةِ وَوَلَايَةُ النُّصْرَةِ وَكِلَاهُمَا بِفَتْحِهَا وَصَاحِبُهُمَا وَلِيٌّ. وَمِنْهُ الْمُوَالَاةُ فِي الْوُضُوءِ، وَوَلَّى وَجْهَهُ الْكَعْبَةَ- تَوَجَّهَ إِلَيْهَا {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [2: 144] وَوَلَّاهُ الشَّيْءَ أَوِ الْعَمَلَ أَوِ الْقَضَاءَ: جَعَلَهُ إِلَيْهِ لِيَقُومَ بِهِ بِنَفْسِهِ فَتَوَلَّاهُ، وَتَوَلَّى زَيْدٌ عَمْرًا: نَصَرَهُ، وَكَذَلِكَ الْقَوْمُ {لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ} [60: 13]- وَأَمَّا تَوْلِيَةُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فَهُوَ جَعْلُهُمْ أَوْلِيَاءَ وَأَنْصَارًا بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ، إِمَّا بِمُقْتَضَى أَمْرِهِ فِي شَرْعِهِ وَمُقْتَضَى سُنَنِهِ وَقَدَرِهِ مَعًا، وَإِمَّا بِمُقْتَضَى الثَّانِي فَقَطْ فَالْأَوَّلُ وِلَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ، فَقَدْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ فِي شَرْعِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ ضِدِّهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَأَثَرُهُ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ بِحَسَبِ تَقْدِيرِ اللهِ الَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ فِي خَلْقِهِ، وَالثَّانِي وِلَايَةُ الْكُفَّارِ الْمُجْرِمِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَهُوَ أَثَرٌ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْمَنْفَعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ تَقْدِيرِهِ وَسُنَنِهِ فِي نِظَامِ الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا يَتَنَاصَرُونَ بِهِ فِي الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ وَالْمُنْكَرِ بَلْ نَهَاهُمْ عَنْهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ هَذَا النِّظَامَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقَدَرِ وَالتَّقْدِيرِ الشَّامِلِ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْيِ مَا زَعَمَتِ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْلُقُ كُلَّ مَا وَقَعَ فِي الْكَوْنِ خَلْقًا آنِفًا، أَيْ مُبْتَدَأً مِنْهُ غَيْرَ جَارٍ عَلَى نِظَامٍ تَكُونُ فِيهِ الْمُسَبَّبَاتُ عَلَى قَدْرِ الْأَسْبَابِ. الْجَبْرُ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْقَدَرِ أَيْضًا. فَتَوْلِيَةُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ لَيْسَ خَلْقًا مُبْتَدَأً مِنَ اللهِ وَلَا وَاقِعًا مِنَ النَّاسِ بِالْإِجْبَارِ وَالِاضْطِرَارِ. وَلَا بِالِاسْتِقْلَالِ الْمُنَافِي لِلْخُضُوعِ لِلسُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ، وَإِنَّمَا جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ بِأَنْ يَكُونَ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الَّتِي تَصْدُرُ مِنْهُمْ تَأْثِيرٌ فِي أَنْفُسِهِمْ يَصِيرُ بِالتَّكْرَارِ عَادَةً فَخُلُقًا وَمَلَكَةً، وَأَنَّ الْأَفْرَادَ وَالْجَمَاعَاتِ يَمِيلُ كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَى مَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَيَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ فِيمَا يَشْتَرِكُونَ فِيهِ عَلَى مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِيهِ، وَقَدْ جَهِلَ الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ جَمِيعًا حَقِيقَةَ الْقَدَرِ، وَصَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَحْمِلُ الْآيَاتِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ مُتَعَارِضَةٌ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا اخْتِلَافَ وَلَا تَعَارُضَ فِيهَا.